ضرورة أخذ العلم من أهله
لفضيلة أ د الشيخ أحمد بازمول حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا .
ألا وإن أصدق الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أما بعد :
فهذا تعليق مختصر للحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :"إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا".
وهو حديث عظيم ، كثير الفوائد والمعاني ، خطير الشأن يحتاج لمعرفته جميع الناس ، لما في العمل به من صلاح الدنيا والدين والسعادة في الدارين ولما في التقصير في فهم معناه أو الجهل به من مزالق عسيرة ، ومهالك خطيرة .
فقد بَيَّنَ النبي عليه الصلاة والسلام أن قبض العلم ليس كما يفهمه بعض الناس يكون برفعه من صدور العلماء ، بل يكون قبض العلم بموت العلماء الربانيين ، فيموت العالم ويموت ما معه من العلم إذا لم يؤخذ عنه العلم .
وقد نص على هذا جماعات من السلف الصالح رضوان الله عليهم فقد أخرج البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى عن عبد الله أنه قال : « تدرون كيف ينقص الإسلام من الناس ؟ قالوا : نعم كما ينقص سمن الدابة وكما ينقص صبغ الثوب وكما يقسو الدرهم لطول الجيب ، فقال : إن هذا منه ولكن أكثر من ذلك ذهاب العلماء يكون في الحي العالمان فيموت أحدهما فيذهب بنصف علمهم ، ويكون في الحي العالم فيموت فيذهب بعلمهم وبذهاب العلماء يذهب العلم ».
وأخرج الدارمي في السنن والمروزي في السنة عن ابن مسعود أنه قال :"عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب بأصحابه أو قال بأهله عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر أو يفتقر إلى ما عنده وإنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق".
وأخـرج البيهقي في المدخل عن الزهري أنه قال : كانوا يقولون : « الاعتصام بالسنة نجاة ، والعلم يقبض قبضا سريعاً ، ونفس العلم ثبات الدين والدنيا وفي ذهاب العلم ذهاب كله »
وقال البخاري في الصحيح كتاب العلم بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا".
وقال ابن قيم الجوزية :"بقاء الدين والدنيا في بقاء العلم ، وبذهاب العلم تذهب الدنيا والدين ، فقوام الدين والدنيا إنما هو بالعلم ".
والعالم هو : من كان عالماً بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح : أخرج الترمذي وأبو داود في السنن عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال :"إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ".
وأخرج الترمذي في السنن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :"إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي".
فدل هذان الحديثان على أن المقصود بالعالم هو من اتصف بهذه الصفات وهي العلم بالكتاب والسنة على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه .
لكن قد يقال : إن العلماء وإن ماتوا فالقرآن محفوظ والسنة محفوظة فكيف يضيع العلم ، وكيف يرفع من الأرض ؟
وهذا السؤال قد أجاب عنه النبي عليه الصلاة والسلام كما أخرج ابن ماجه في السنن عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَقَالَ ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا".
فدل هذا الحديث على أن العلم يبقى إذا أخذ العلم من أهله ، وتوارثه الخلف عن السلف ، وأن العلم يرفع إذا لم يؤخذ من أهله ، وأهمله طلاب العلم فاشتغلوا بأمور أخرى عن العلم الشرعي ، وإن ظنوا أنهم يشتغلون بالعلم مثل فقه الواقع والقصص الوعظية المبنية على غير الكتاب والسنة ومثل الكتب الفكرية وكتب الوساوس والخطرات وغيرها مما فتن به شباب الأمة باسم الصحوة الإسلامية .
ومما يدل على أهمية أخذ العلم عن أهله ، ونشره بين الناس الأمور التالية :
الأمر الأول : أمر الله عز وجل فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ .
ووجه الاستدلال من الآية : أن الله لم يأمرنا بسؤال أي أحد ، بل أمرنا بسؤال أهل العلم .
الأمر الثاني : لبقاء العلم غضاً فتأخذه كل جماعة عمن قبلها ، فلو لم يؤخذ عن العلماء ضاع العلم كما أخرج البيهقي في المدخل عن عبد الله بن عبيد قال :"إن العلماء إذا أدركهم المتعلمون فني العلماء وبقي العلم غضا عند المعلمين فإذا لم يدركهم المتعلمون ذهب العلم".
الأمر الثالث : أن العلم إذا لم يؤخذ من أهله رفع من الأرض ؛ لأن العلماء ببقائهم بقاء العلم ، فإذا لم يؤخذ العلم منهم ، وماتوا قبض العلم ، ولا ينفع بقاء الكتب .
ووجه كون العلم يقبض بقبض العلماء أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، والعلماء يخلفون النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الحق لأنهم ورثة الأنبياء ، فإذا قبض العلماء ، وبقى الناس بلا عالم ، فمن يبين لهم دينهم ! والأمم السابقة كانت أنبياؤهم تسوسهم نبي يخلف نبي .
الأمر الرابع : أن بقبض العلم يظهر الجهل والفتن والقتل كما أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :"يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ".
الأمر الخامس : أن الناس محتاجون للعلم أكثر من حاجتهم لغيره قال الشيخ ابن عثيمين :"التلميذ محتاج إلى الأستاذ من الناحية العلمية والناحية العملية ، لهذا كان لزاماً عليه أن يحرص غاية الحرص على انتقاء الأساتذة الذين عرفوا بالعلم وعرفوا بالأمانة والدين ، وعرفوا بالمنهج السليم والتوجه الصحيح ، حتى يتلقى من علمهم أولاً ثم من منهجهم ثانياً".
الأمر السادس : أن الخطأ في هذه المسألة يتسبب عنه ضرر كبير جداً ، ومفسدة بالغة قال الشيخ صالح الفوزان :"أصحاب البدع والأفكار الهدامة ، يجب على الشباب الابتعاد عنهم ؛ لأنهم يسيئون إليهم ، ويغرسون فيهم العقائد الفاسدة والبدع والخرافات ، ولأن المعلم له أثره على المتعلم ، فالمعلم الضال ينحرف الشاب بسببه ، والمعلم المستقيم يستقيم على يديه الطلبة والشباب ، فالمعلم له دور كبير ، فلا نتساهل في هذه الأمور".
خطورة عدم الرجوع إلى العلماء :
إن عدم الرجوع إلى العلماء وأخذ العلم عنهم من الأمور التي تؤدي إلى قبض العلم .
ومن الأمور التي تؤدي إلى قبض العلم اتهام العلماء الربانيين بتهم باطلة (كقولهم علماء حيض ونفاس ، وعملاء ، ومباحث ، وبغلة السلطان ، وعلماء سلطة) ؛ لتنفير الناس عنهم لئلا يرجعوا إليهم ، وفي الوقت نفسه يصفون علماء السوء والبدع بأوصاف جميلة وهذا مصداقاً للحديث الذي أخرجه ابن ماجه في السنن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :"سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ".
فالعلماء الربانيون المؤتمنون يتهمونهم ولا يصدقونهم ويردون قولهم .
وعلماء البدعة والسوء يصدقونهم ويأمنونهم .
وتكلم الجاهل الذي لا يحسن العلم - وإن تظاهر بالعلم - تكلم في أمر يتعلق بمصير الأمة بالتحليل والتحريم فهو الرويبضة .
قال الشيخ الفوزان :"قبض العلم إنما يكون بموت العلماء : هو ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور العلماء ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
والله هذا هو الواقع اليوم ، الآن رءوس جهال يتكلمون بأحكام الشريعة ، ويوجهون الناس ، ويحاضرون ، ويخطبون وليس عندهم من العلم والفقه شيء ، إنما عندهم تهريج وتهييج ، قال فلان ، وقال فلان ، شغلوا الناس بالقيل والقال ، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، اتخذا الناس رءوساً جهالاً .
ومع الأسف يسميهم الناس : علماء ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، في حين لو تسأله عن نازلة من النوازل أو حكم شرعي فإنه لا يستطيع أن يجيبك بجواب صحيح ؛ لأنه يقول : هذا ليس بعلم ، العلم هو الثقافة السياسية وفقه الواقع ، فحرموا العلم - والعياذ بالله - نسأل الله العافية " اهـ
وإن اعتزال مجالس العلماء سبب رئيس للوقوع في الأفكار المنحرفة والاندراج في الفئة الضالة الإرهابية الخارجية قال الشيخ صالح الفوزان :"الخوارج لما اعتزلوا مجالس العلماء واقتصروا على فهمهم الكاسد ضلوا وأضلوا وكفروا خيار الأمة ، واستحلوا دماءهم ، وصاروا سبة في التاريخ الإسلامي ، ولم ينالوا خيراً ، وقد سار على نهجهم المنحرف طوائف من حدثاء الأسنان ، وسفهاء الأحلام ، وصاروا يعيدون تاريخهم الضال الأسود ،وخير شاهد على ذلك ما نشاهده الآن من جماعات ابتعدت عن الدراسة على المشايخ والدراسة في المؤسسات العلمية وانطوت على نفسها واقتصرت على فهمها المنحرف الذي لم يُبنَ على أصول علمية ولا على قواعد فقهية،ولم يكن له أمكنة معروفة فكان لذلك آثاره السيئة عليهم وعلى الأمة وأصبحوا سبة على الإسلام والمسلمين"اهـ
قلت : صدق حفظه الله وأحسن فيما قاله فقد أخرج الطبراني في المعجم الأوسط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيأتي على أمتي زمان يكثر القراء ويقل الفقهاء ويقبض العلم ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل بينكم ثم يأتي بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال لا يجاوز تراقيهم ثم يأتي زمان يجادل المنافق المشرك المؤمن".
ولعل قائلاً يقول : ما مراد النبي عليه الصلاة والسلام بالرؤوس الجهال ؟
فالجواب عن هذا السؤال المهم هو أن يقال : الجاهل المراد به كل من تكلم في دين الله بلا علم ، ولو كان خطيباً مفوهاً أو كان حاملاً للشهادات أو كان صاحب لسان فصيح مليح إذا تكلم في دين الله بلا علم فهو جاهل ، قال الشيخ صالح الفوزان :"لا يجوز الأخذ عن الجهال ولو كانوا متعالمين".
فمن تكلم في مسألة لا يعلم حكمها فهو جاهل ولو كان عنده شيء من العلم والشهادات ؛ لأن الرؤوس الجهال تكلموا في أمر لا يعلمونه ؛ وذلك ما جاء في نفس الحديث حيث قال عليه الصلاة والسلام :"فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا". فقال فأفتوا بغير علم .
وأخرج أبو داود في السنن عَنْ جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ". فقال عليه الصلاة والسلام :"ألا سألوا إذ يعلموا".
قال الشيخ ابن عثيمين :"الكتيبات كثيرة ، وكثيرة أيضاً من أناس مجهولين لا يعلم عنهم سابق علم ، ولا سابق فقه ، فيحصل فيها إذا خالفت الحق ضرر على العامة ، ولهذا أنا أنصح أن لا يتلقى من هذه الكتيبات إلا من عرف أصحابه ، وأنهم من العلماء الموثوقين بهم ديناً وعلماً حتى لا يضل ، وكما قال بعض السلف :"إن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم"اهـ
ويدخل في الجهال كثير من القصاص والمذكرين والخطباء والمحاضرين حتى كثير حملة شهادة الدكتوراه ومن تاب من الفساق ومن أسلم من الكفار إذا لم يكن عندهم علم شرعي .
كما حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام من أهل الأهواء والبدع كما أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :"فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ".
وأخرجه الخطيب في الفقيه عَنْ أَبِي أُمَيَّة الْجُمَحِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ " مِنْ أَشْرَاط السَّاعَة أَنْ يُلْتَمَس الْعِلْم عِنْد الْأَصَاغِر".
قال ابن المبارك : الأصاغر من أهل البدع
وقال الإمام مالك بن أنس :"لا تحمل العلم عن أهل البدع كلهم".
وقال ابن عبد البر:"أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ، ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء ، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم".
قال الشيخ صالح الفوزان :"لا يجوز الأخذ عن المنحرفين في العقيدة بشرك أو تعطيل ، ولا الأخذ عن المبتدعة والمنحرفين وإن سموا علماء". اهـ
ويدخل في أهل الأهواء والبدع المفكرون وفقهاء الواقع ودعاة الصحوة إذا لم يتبعوا الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح .
وكذا لا يؤخذ العلم عن الفساق الذين يحلقون لحاهم أو يخالطون النساء أو يسبلون ثيابهم أو يسمعون الأغاني ونحو ذلك من المعاصي قال الشيخ صالح الفوزان :"لا تأخذ دينك إلا عن عالم تقي قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فخذ من العلماء الذين يخشون الله بشرطين : أن يكون عالماً وأن يكون يخشى الله. فإن كان عالماً لا يخشى الله فلا تأخذ عنه ، وإن كان يخشى الله لكنه ليس بعالم فلا تأخذ عنه" اهـ .
وهذا آخر ما أردت التعليق على هذا الحديث العظيم ، وإن كان الحديث مليئاً بالفوائد والمعاني ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .