الأنهار الجارية إلى حديث العرباض بن سارية
لفضيلة أ د الشيخ أحمد بازمول حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده و رسوله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:102) .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء:1) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (الأحزاب:7).
ألا و إن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي محمد و شر الأمور محدثاتها و كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار .
أما بعد
فقد روى الصحابي الجليل الْعِرْبَاض بْن سَارِيَةَ رضي الله عنه حديثاً عظيماً عن النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال رضي الله عنه : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ! ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ! فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ :" أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ".
فهذا الحديث فيه وصية عظيمة للمسلمين وموعظة بليغة للمؤمنين ، وهو أصل عظيم عند أهل السنة والجماعة السلفيين لما اشتمل عليه من المعاني والحكم والأصول الكبيرة .
فقوله رضي الله عنه (وعظنا) أي ذكرنا .
والموعظة : كلام يشتمل على ترهيب وعلى ترغيب وتشويق ؛ يرق له له القلب ويشتمل أيضاً على أمر بشيء أو نهي عن شيء .
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتخول أصحابه بالموعظة فيراعي الوقت المناسب للتذكير ، ولا يداوم على الموعظة ؛ لئلا يمل أصحابه .
ففي الصحيحين عن أبي وائل قال : كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس . فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم ؟ قال : أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم ، وإني أتخولكم بالموعظة ، كما :"كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا".
والواعظ عند السلف كان من أهل العلم يتكلم على علم ونور من الله أما اليوم فإن الواعظ يحتاج إلى واعظ ومعلم إلا من رحم الله ، قال ابن الجوزي :"كان الوعاظ من قديم الزمان من العلماء والفقهاء ، حتى إذا خست هذه الصناعة تعرض لها الجهال فأعرض عن الحضور المميزون من الناس ، وتعلق بهم العوام والنساء"اهـ .
وقد اغتر كثير من الناس فظنوا الوعاظ هم العلماء فقدموهم على أهل العلم والإيمان ، ورغبوا في سماع كلامهم والرجوع إليهم دون العلماء ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :"إن الواجب أن تنظروا إلى العلم ؛ لأن العلم هو الأصل ، وأما القدرة على التأثير وعلى الدعوة فهذا باب آخر ، فكم من إنسان جاهل في ميزان العلم - يعني : في علم الشريعة – لكن عنده قوة تأثير حينما يتكلم بوعظ أو ما أشبه ذلك ، فالواجب على الإنسان أن لا يأخذ دينه إلا ممن هو أهل للأخذ منه ، كما قال بعض السلف :"إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" ولا يكفي الإنسان أن يكون قوي الحجة عظيم البيان فالواجب أن ينظر إلى ما عنده من العلم وما عنده من السلوك".
والملاحظ على الوعاظ والخطباء اليوم عدم فهم لهدي النبي عليه الصلاة والسلام في الوعظ ، فلم ينتفع كثير من الناس بمواعظهم إلا تأثراً يسيراً سرعان ما يزول ، قال ابن قيم الجوزية : كَانَتْ خُطْبَتُهُ صلى الله عليه وسلم تَقْرِيرٌ لِأُصُولِ الْإِيمَانِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ وَذِكْرِ الْجَنّةِ وَالنّارِ وَمَا أَعَدّ اللّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ وَمَا أَعَدّ لِأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ فَيَمْلَأُ الْقُلُوبَ مِنْ خُطْبَتِهِ إيمَانًا وَتَوْحِيدًا وَمَعْرِفَةً بِاَللّهِ وَأَيّامِهِ .
لَا كَخُطَبِ غَيْرِهِ الّتِي إنّمَا تُفِيدُ أُمُورًا مُشْتَرِكَةً بَيْنَ الْخَلَائِقِ وَهِيَ النّوْحُ عَلَى الْحَيَاةِ وَالتّخْوِيفُ بِالْمَوْتِ فَإِنّ هَذَا أَمْرٌ لَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ إيمَانًا بِاَللّهِ وَلَا تَوْحِيدًا لَهُ وَلَا مَعْرِفَةً خَاصّةً بِهِ وَلَا تَذْكِيرًا بِأَيّامِهِ وَلَا بَعْثًا لِلنّفُوسِ عَلَى مَحَبّتِهِ وَالشّوْقِ إلَى لِقَائِهِ فَيَخْرُجُ السّامِعُونَ وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا فَائِدَةً غَيْرَ أَنّهُمْ يَمُوتُونَ وَتُقَسّمُ أَمْوَالُهُمْ وَيُبْلِي التّرَابُ أَجْسَامَهُمْ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي أَيّ إيمَانٍ حَصَلَ بِهَذَا ؟ وَأَيّ تَوْحِيدٍ وَمَعْرِفَةٍ وَعِلْمٍ نَافِعٍ حَصَلَ بِهِ ؟
وَمَنْ تَأَمّلَ خُطَبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخُطَبَ أَصْحَابِهِ وَجَدَهَا كَفِيلَةٍ بِبَيَانِ الْهُدَى وَالتّوْحِيدِ وَذِكْرِ صِفَاتِ الرّبّ جَلّ جَلَالُهُ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الْكُلّيّةِ وَالدّعْوَةِ إلَى اللّهِ وَذِكْرِ آلَائِهِ تَعَالَى الّتِي تُحَبّبُهُ إلَى خَلْقِهِ وَأَيّامِهِ الّتِي تُخَوّفُهُمْ مِنْ بَأْسِهِ وَالْأَمْرِ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ الّذِي يُحَبّبُهُمْ إلَيْهِ فَيَذْكُرُونَ مِنْ عَظْمَةِ اللّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ مَا يُحَبّبُهُ إلَى خَلْقِهِ وَيَأْمُرُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ وَذِكْرِهِ مَا يُحَبّبُهُمْ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ السّامِعُونَ وَقَدْ أَحَبّوهُ وَأَحَبّهُمْ ثُمّ طَالَ الْعَهْدُ وَخَفِيَ وَصَارَتْ الشّرَائِعُ وَالْأَوَامِرُ رُسُومًا تُقَامُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا فَأَعْطَوْهَا صُوَرَهَا وَزَيّنُوهَا بِمَا زَيّنُوهَا بِهِ فَجَعَلُوا الرّسُومَ وَالْأَوْضَاعَ سُنَنًا لَا يَنْبَغِي الْإِخْلَالُ بِهَا وَأَخَلّوا بِالْمَقَاصِدِ الّتِي لَا يَنْبَغِي الْإِخْلَالُ بِهَا فَرَصّعُوا الْخُطَبَ بِالتّسْجِيعِ وَالْفِقَرَ وَعِلْمَ الْبَدِيعِ فَنَقَصَ بَلْ عَدِمَ حَظّ الْقُلُوبِ مِنْهَا وَفَاتَ الْمَقْصُودُ بِهَا"اهـ .
قلت : ويلاحظ على وعاظ اليوم ما يلي :
أولاً : قلة علمهم وتفقهم في دين الله حتى يحتاج الواحد منهم إلى من يعظه ويذكره بالله ، فهذا الواعظ كان مفحطاً والآخر كان مخرجاً سينمائي والثالث كان لاعب كرة والرابع كان مغنياً !
فصدروهم للناس ، وجعلوا الناس يتوجهون إليهم وكأنهم علماء يستحقون الرجوع إليهم ، فهذه صورة من صور ضياع العلم .
ثانياً : يوردون كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة المكذوبة على النبي عليه الصلاة والسلام ، وإذا أنكر عليهم الواحد ! قالوا بقلة حياء : يعمل بالضعيف في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب .
ثالثاً : يفسرون الآيات ويشرحون الأحاديث بلا فهم وفقه لها .
رابعاً : يكثرون من ذكر القصص الواقعية في كلامهم ، حتى تعلق الناس بهم ، فإذا استمعوا لعالم يورد الأدلة من الكتاب والسنة ، قالوا : نريد مثل فلان الواعظ كلامه جميل ، فعلقوا الناس بهذه القصص ، مع العلم بأن هذه القصص تشتمل على محاذير شرعية من عدة جهات : كأن تكون مكذوبة أصلاً ، أو تكون من باب إشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم ، أو تكون من باب هتك عورات الناس ، أو تكون من باب تعليم الجاهل طرق الجريمة وغيرها من المحاذير .
خامساً : أنهم شغلوا الناس عن العلم فصارت خطبهم ومحاضراتهم تتنوع ما بين وعظية على ما فيها من المخالفات ، أو سياسية لا علاقة لعامة الناس بها إلا من باب التثوير والتهييج السياسي أو تعرض للطعن على ولاة الأمر في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغيرة على أعراض المسلمين .
قال الشيخ صالح الفوزان :"كثير من الكتابات اليوم أو المحاضرات أو المقالات تصدر عن جهلاء بأمور الشرع يحمسون الناس ويأمرون الناس بما لم يأمرهم الله به ولا رسوله ، ولو كان هذا صادراً عن حسن قصد وحسن نية ، فالعبرة بالصواب ، والحق هو ما وافق الكتاب والسنة ، وأما الناس ما عدا رسول الله فإنهم يخطئون ويصيبون ، فيقبل الصواب ويترك الخطأ".
سادساً : استغلال هذه المواعظ ؛ لاستخراج الأموال من عامة الناس بحجة صرفها إلى ما ينفع المحتاجين من المساكين والفقراء ، ثم هم يصرفونها في غير ما جمعت له ، بل يصرفون ؛ لإعانة الإرهابيين والخارجين على أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله رضي الله عنه (ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب)
لما استشعر الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام سيفارقهم ، بكوا على ذلك ، ولما استشعروا أن النبي عليه الصلاة والسلام يوصيهم ويحملهم الأمانة من بعده خافوا من التقصير . وهكذا كان السلف الصالح صحابة رسول الله عليه رضي الله عنهم كانوا مستسلمين للحق والدليل من الكتاب والسنة ، كانوا لا يعارضونه بأهوائهم ، ولا يردونه من أجل فلان وعلان .
وأوصاهم وإيانا النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بالأمور التالية :
الأمر الأول : تقوى الله ، حيث قال عليه الصلاة والسلام أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وتقوى الله هي وصية الله للأولين والآخرين كما قال سبحانه وتعالى ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله
وكذا أوصى بها النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه وأمته حيث قال لأَبِي ذَرٍّ :"اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".
وتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل الطاعات واجتناب معاصيه .
ورأس التقوى : أن يعلم العبد ما يُتَّقى ثم يتقي .
وما يدعيه أهل الأهواء والبدع وأصحاب الجماعات المخالفة لمنهج السلف من التقوى فهو غير صحيح ؛ لأن أساس التقوى أن تكون على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه .
ولذلك نجد أهل الأهواء والبدع وأصحاب المناهج المخالفة لمنهج السلف أبعد الناس عن التقوى وإن تظاهروا بها ، فهم كاللصوص الذين يعيشون وسط الشرفاء ويتظاهرون بالعفة والشرف ، وفي حقيقة الأمر هم لصوص .
فلا تستغرب إذا رأيتهم يأكلون أموال الناس بالباطل بحجة مصلحة الدعوة ، ولا تستغرب إذا رأيتهم يطعنون في ولاة الأمر بحجة مصلحة الدعوة ، ولا تستغرب إذا رأيتهم يطعنون في العلماء السلفيين بحجة مصلحة الدعوة !!!
نعم إنها مصلحة دعوة الشيطان وأتباعه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والأمر الثاني الذي أوصاهم به : أوصاهم بالسمع والطاعة لولاة الأمر حيث قال :"وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا".
وطاعة الأمير من طاعة الله ورسوله فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي".
وهذا ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يوصي به أصحابه فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ :"إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ".
بل أمر عليه الصلاة والسلام بطاعة الأمير حتى في الأمر الذي قد يكون شاقاً على الإنسان أو يثقل عليه حتى وإن استأثر الأمير لنفسه بأشياء دون الرعية فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ".
ولما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام لحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ الأَئِمَّةالذين لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَيه وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّته قَالَ حذيفة : قُلْتُ : كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ :"تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ".
قال أهل العلم : السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين فيها سعادة الدنيا وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم .
وقال الحسن البصري : والله لا يستقيم الدين إلا بولاة الأمر وإن جاروا وظلموا ، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون .
وبهذا نعلم أن موقف العلماء السلفيين من السمع والطاعة لولاة الأمر هو السنة ، وأن من يطعن على ولاة الأمر ومن لا يقول بالسمع والطاعة لهم هو من أهل الأهواء من الخوارج الإرهابيين الذين لا يمتثلون النصوص الشرعية .
والأمر الثالث : الذي وصى به النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه : التمسك بالسنة ، والبعد عن الاختلاف والبدعة حيث قال عليه الصلاة والسلام :"فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ".
فالتمسك بالسنة يعني تعلمها والعمل بها وتقديمها على الآراء والأهواء .
التمسك بالسنة يعني أن تقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام في أفعاله وأقواله وأن تستجيب لأمره ، وأن تبتعد عن نهيه .
وكلٌ يدعي التمسك بالسنة ولكن في الحقيقة المتمسكون في السنة قليلون جداً ؛ لأننا نرى بعض الصالحين يعملون أعمالاً وأقوالاً لم يأتِ بها النبي عليه الصلاة والسلام نرى الشباب المسلم ، يقوم بتنظيمات ودعوة على طريقة لم يكن عليها النبي عليه الصلاة والسلام ، لذلك كان التمسك بالسنة شديداً كما أخبرنا بذلك عليه الصلاة والسلام فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ".
فالمتمسك بالسنة قابض على الجمر لماذا ؟
لأن أهل الشهوات يدعونه ليكون معهم في المعاصي والملهيات ، وأهل الشبهات الذين أتوا بأمور لم يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام يدعونه ليكون معهم ، فإن لم يستجب لهؤلاء - أهل الشهوات - ولا لهؤلاء - أهل الشبهات والأهواء - طعن فيه كلٌ منهم وقدح فيه وحذر منه ، وهذه هي الغربة مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ".
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود :" كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً فَإِذَا غُيِّرَتْ قَالُوا غُيِّرَتْ السُّنَّةُ . قَالُوا : وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ".
وما أروع ما قال ابن قيم الجوزية في وصف غربة أهل السنة العاملين بها : الغرباء الممدوحون المغبوطون ؛ ولقلتهم في الناس جداً سموا غرباء ؛ فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات ، فأهل الإسلام في الناس غرباء ! والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء ! وأهل العلم في المؤمنين غرباء ! وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء ! والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة !
ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز وجل فيهم {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه وغربتهم هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم"اهـ .
وقوله عليه الصلاة والسلام (فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا) بعض الناس يظن أن المراد بالاختلاف هو الوقوع في المعاصي والشهوات ، وهذا خطأ ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال :"فعليكم بسنتي" وقال "وكل بدعة ضلالة".
فالمراد بالاختلاف أن يعمل الناس بغير سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، فنرى بعض الناس لا يقتدون بالنبي عليه الصلاة والسلام في قوله وفي عمله وفي دعوته بل يعملون بدعوة فلان من الناس ، وبالجماعة الفلانية والحزب الفلاني ، ونراهم لا يكونون على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه ، ولا شك أن هذا خطأ عظيم فقد قال عليه الصلاة والسلام : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ! قال من هي يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام :"ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
وكذا قوله تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ثم قال سبحانه وتعالى {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
وكقوله تعالى {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
فالاختلاف والتفرق المذموم المراد به ما كان في الدين مما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، وفي حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :" ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
فلينظر الواحد منا - إن كان صادقاً - إلى أعماله وأقواله ودعوته إلى الحق إذا كانت على مثل ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام فاحمد الله ، وإذا كانت مخالفة لما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام فتب إلى الله من البدع والشبهات واستغفر الله واسأله أن يرفق للحق والسنة .
عجيب أمر بعض الناس يتوب من المعاصي ويحذر منها التحذير البالغ وكأنها كفر ، ويقع في البدع والمحدثات التي هي أشد وأخطر من المعاصي بإجماع أهل العلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :"إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع".
وقال الشيخ صالح الفوزان :"البدعة أشد من المعصية ، والبدعة أحب إلى الشيطان من المعصية ؛ لأن العاصي يتوب ، أما المبتدع فقليلاً ما يتوب ؛ لأنه يظن أنه على حق بخلاف العاصي ، فإنه يعلم أنه عاصٍ ، وأنه مرتكب لمعصية ، وأما المبتدع فإنه يرى أنه مطيع وأنه على طاعة ، فذلك صارت البدعة – والعياذ بالله – شراً من المعصية ، ولذلك يحذر السلف من مجالسة المبتدعة ؛ لأنهم يؤثرون على من جالسهم وخطرهم شديد .
لا شك أن البدعة شر من المعصية ، وخطر المبتدع أشد على الناس من خطر العاصي ، ولهذا قال السلف :"اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة"اهـ .
وبعض الناس يظن أن التوبة فقط من المعصية ، وهذا سببه أن أهل البدع والأهواء والمناهج المختلفة صوروا للناس أن التوبة تجب فقط من المعصية ، وهذا خلاف الصواب من الأدلة الشرعية فالأدلة دلت على الكبائر والذنوب على ثلاث درجات :
1- الكفر والشرك .
2- البدع .
3- الذنوب كبائر وصغائر .
فأعظمها وأشدها الشرك بالله والكفر به .
ويتلوها البدع والأهواء والمناهج المنحرفة .
ثم المعاصي صغائر وكبائر .
والتوبة من الشرك والكفر تكون بالتوحيد الخالص .
والتوبة من البدعة تكون بلزوم السنة على فهم السلف الصالح .
والتوبة من المعاصي تكون بالاستغفار والرجوع إلى الله عز وجل والإنابة إليه .
ونقول لجميع المسلمين عموماً ، وخصوصاً أصحاب المناهج الفاسدة المخالفة لمنهج السلف الصالح ، وكل منهج ليس على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه فهو فاسد كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ".
اسأل الله أن يوفقني وإياكم لإتباع السنة على منهج سلف الأمة ، وأن يبعدني وإياكم عن البدع والأهواء والشبهات وأن يجنبنا الشهوات والمعاصي والآثام وأن يتوب علينا ، وأن يحفظنا في ديننا وأهلينا وأوطاننا وبلاد المسلمين ، وأن يوفق ولي أمرنا لما يحبه ويرضاه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .